السبت، 24 يوليو 2010

ضللتُ طريقَ الوطنِ .. و المنفى !




فكرتُ في أنّي سأمشي بِ محاذاةِ خطواتي القديمة , و رائِحةُ جسدِكَ تنتشِرُ في قميصي بِ فِعلِ حُضنِكَ الأخير و بِ تأثيرِ المَطرِ المتساقِط عليّ بِ وحشيّة .. و فكرّتُ كيّفَ أنّ آخرَ الطريقِ لن يحمِلَ لي حُضناً آخرَ مِنّكَ .. و لن يهِبني ارتباكةَ جسدِكَ في لِقاءٍ حميم !
و أظنُ أنّ ادراكي حينها أنّي سأعبُرُ ذاتَ الطريقِ وحدي , كانَ أوّل شاهد على امتدادِ حُزني الطويل !
لماذا تختلسُ أكثرَ مِما تستحقُ مِن رمادِ الذاكِرة , لماذا لا تَبقى مخفياً تحتَ أنقاضِ الحُزنِ الذي أحدثتهُ فوضويّةُ رحيلكَ , لماذا تُصّرُ دائماً على القفزِ إلى أحلامي , إلى أيامي , إلى عُمري , لتذكرني أنّي قتلتُ كُلّ الأعوامِ مِن قبلِكَ , لأعيشَ فيكَ وحدكَ , و لكنّكَ دحرجتَ رغبتي فيكَ إلى هاويّةِ ليلٍ مازالَ قائماً تحتَ عينيّ , لا ينام !

مليء بالتعبِ جسدي , فكيفَ بِكَ تجعلني أسيّرهُ في طريقٍ بِلا رفيق , بلا بِدايّةٍ ملوّنة , بِ نهايةٍ مؤجلة , يجري خلفَ مواعيدٍ ما كانت تأتِ و لحظاتِ غرامٍ مؤقتة ,
غارِقُ بِ الخيباتِ رأسي , فكيفَ بِكَ تُحرِقُ فيهِ حتى الإنتظار , عندما يتعلّقُ المصيرُ بِك !
لماذا تناديني مِن خلفِ عيونِ السماء , و تغيبُ خلفَ القُرى , و في قلبِ القمحِ و خُبزِ أهلهِ تتركُ لي أثراً يخصّك !
لماذا لا تختفي كليّاً .. و أغتسلُ بِكَ بينَ رحيقِ اللهِ , فتمحى عن وجهي الهزيمة بِكَ .. تلوَ الهزيمة .. حتى أنتهي منكَ كما لو أننا ما بدأنا !
كيفَ يمكنُ أن أفسرَ كُلّ الأشياءِ التي فقدت هويّتها مِن بعدك .. كيف !

تسامى الوطنُ طويلاً .. و هربت ملائكتهُ خلفكَ , و لم تترك الملائكة أثراً كما كُنتَ تفعلُ معي , ماعادَ الساكِنونَ فوقَ هذا التُرابِ يعرِفونَ كيفَ تشرقُ الشمسُ مِن وجهِ ملاك , و لا كيّفَ ينامُ القمرُ تحتَ خدِّ صبيّةٍ أحبّتك !
الشمسُ لا تشرِقُ إلا لفضحِ جِراحِهم التي تنزِفُ وجعاً .. و القَمر فُقِدَ منذُ أن امتلأ وجهُ الصبيّةِ بِ الملامِحِ الراحلةِ خَلفّكَ .. الباحثةِ عن وجهِكَ , لترتبَ سيولَ الإنفعالاتِ المجنونة !
ماعادَ الوطنُ يعتَرِفُ بِ إنتماءِ ملامِحنا إليّهِ .. كذلكَ أنت .. ماعدّتَ تُعطي ملامحي قِسطاً مِنَ الهدوءِ و الراحةِ و الإستقرارِ عليّك .. كما لو أنّكَ ما عُدّتَ تتعرّفُ عليّ و أنا أتدهورُ خلفَ حبّاتِ الرِمالِ التي تحمِلُ بصمةَ خطواتِكَ الأخيرة !


تخيّل .. لستَ وحدكَ من تخلى عنّي , لستَ وحدكَ من منحني إرهاقاً يكفيني كُلَ عُمري ..
ها هوّ الرصيفُ يشيّعُ وقوفي طويلاً على بابه , و يمسحُ عن جبينِ صمتي خوفَ الضعفاء ,
أتَصَدَّقُ للطريقِ مِن جيبِ عيني .. دمعةٌ .. كنتُ أحتفظُ بِها لفاجعةٍ أقلّ قسوّة , و لكنّكَ إخترتَ أن أرتدي أكبرَ فاجعاتي أوّلاً معكَ , ربما لتأتِ كُلُ الفاجعاتِ بعدها غيّرَ مؤذيّة !
أينَ سأذهبُ الآن , و قد حملَ الطريقُ قدميّهِ و فرّت مِني كُلُ منافذهِ , أيّنَ أذهبُ و لا منفى سيحتمِلُ صخبَ حُزني , أينَ أتوجهُ و الوطنُ أعلنَ إنسحابهُ عنّي !

أينَ أكونُ .. و أنتَ لن تكون و أحلامي المعقودة بينَ أمتعةِ رحيلكَ لن تكون .. و روحي المتسوّلة على أبوابِ سمائِكَ لن تكون .. !

ليسَ لي منفى لِـ أقولَ ليَ وطن ! *


* محمود درويش



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحتَ بابي , قلبٌ غافي , فرفقاً بِ خلوتهِ .