الأحد، 20 مارس 2011

مُدي ضوءكِ . . حتى تُشرِقَ الحياة (2)


" بِـ رحيلكِ , كُل اللحظاتِ مائِلة للصمت
و لا يعلو بِـ داخلي غيّرَ صدى صوت : كيفَ سمحتُ لكِ أن تسرقيني , و تتركي ما تبقى مني للصمت ؟

.. قبلَ الدهشةِ العظمى بِ دهشة : 

( الخامِس مِن أيلول , 2009 ) 

لم تكنُ جرائِدُ الصباحِ تحمِلُ نكهةً خضراء تخصُ وطني ..
و مع هذا تناولتُها حرفاً حرفاً , عَلّني أخِلقُ تعويذة تُخلّصني مِن روتينِ أيامي .
العصافيرُ مَلّت غصونها , و أغصانُ الأشجارِ تتخلى عن أوراقِها , طالما أذهلني منظرُ تِلكَ الفروعِ المائِلةِ و هيّ تبعثُ بِ دفءِ أوراقِها إلى أرضِ المدينةِ بِلا مُقابِل , و تبقى وحدها بِلا معطفٍ , فـ تُقابِلُ فصلَ الشِتاءِ عاريّة !
تُذهلني هذهِ الطيبة التي تتحلّى بِها أشجارُ العالم .. رغمَ أن الطيبة في مفهومِنا – البشري - الحضاري الجديد , تعني السذاجة المُطلقة , فنحنُ لن نسمع يوماً أنّ الأرضَ عايرت الأشجارَ لوقوفِها أربعةَ أشهرٍ بلا رداءٍ يقيها صفعاتِ الشتاء !
نحنُ البشرُ ساذجون , لو أن أحدنا أصبحَ كـ الشجرة لسخرّنا أصابِعنا العشرة للإشارةِ إليّهِ بسخريّة !
هه أظنُ أني عشتُ كُلّ حياتي " شجرة ! " دونَ أن أعلم .. !
الرياحُ كانت تضربُ تحايا حارّة معَ معطفي , أظنُ أنّ اليوم مِن أولهِ لا يناسبُ رجلاً مثلي , فقد إعتدتُ على روتينِ الهدوءِ في أيامي , حاولتُ إكمالَ طريقي و أنا أعطِلُ صوتَ تلكَ التحايا في أذني , وجوهُ الشعبِ تلبِسُ التجهّمَ في هذا الفصلِ بالذات , و الفتيات الجميلات يتحوّلنَ إلى قنبلةِ قابلةٍ للإنفجارِ في أيّةِ لحظة , أظنُ أن عبثَ الرياحِ في خصلاتِهنّ و فقدان مساحيقِ التجميلِ عملها السحري , أدى إلى نوباتِ الغضبِ الظاهرةِ في أصواتِهن !
و معَ هذا أنا أُراهن أنهنّ يزددنَ جمالاً و ملامِحُ الإرتباكِ واضحة عليهن !!
يترأى أمامي و أنا أشاهِدهنّ شعركِ الحريري عندما كانَ يداعِبُ كتفي , و لكن سُرعان ما أطرِدُ صورتكِ في مُحاولةٍ جادة لِـ نسيانكِ !
لا أدري كيفَ يُحرّضني فصلُ الخريفِ على تذكركِ , ربما هناكَ رابِطٌ يربِطُكِ بهِ , ربما سقوطُكِ المُتكرر داخلي , فقد كنتِ ذكيّةً جداً و أنتِ تسقطينَ بِ كامِلِ حُسنِكِ , ثُمَ بِ كامِلِ قسوتكِ , حتى لا تتركي لي مجالاً لِـ مُقاومتِكِ !
أريدُ تجاوز فكرةِ ربطِكِ بِ كُلِ ما يدورُ حولي , و أريدُ أن أقنعَ نفسي أن السماء لا تُشبهكِ و أنّها عندما تتزيّن بفستانِ الشفقِ لا تظهرُ بِ لوّنِ وجنتيّكِ و أنها عندما تحمِلني إليّها لا تحمِلُ معها دفء حُضنكِ !
و أسألُ الله عن عافيّتي مِنكِ , عن انشغالي بِ أمورٍ تُشتتُني عنكِ .. تبعدني عن رائِحةِ قهوتكِ العالقةِ في قلبي , عن تورطي بأشياء لا تذبلُ و لا تنتهي عندما تُغمِضينَ عينيّكِ على وجهِ غيري !
شوارِعُ برلين المُشرقة , تتبدّلُ لِـ تؤكدَ لي أنّ الفتنة التي خصيتُكِ بِها كذبة !
فها هي الشوارِعُ بِ كُلِّ حالاتِها , فاتنة ..
ترتدي وجهي , أكثرَ مِنكِ !
ها هي الشوارِعُ وفيّة , تجفُ عندَ غيابِ أحضانِ المطرِ عنها ,
ترتدي فتنتها لجذبِ محبوبِها , المطر !
ياه و المَطرُ يُداعِبُ غيّر تلكَ الشوارِعِ في سقوطهِ !
يداعِبُ أجسادَ النساءِ , و فرحَ الأطفالِ و حُزن النوافِذِ و وحدةِ المباني !
لماذا يخونُها و هيّ بِكامِلِ وفائِها تنتظِرُ حضورهُ و معهُ شوقه إليّها !!
بدأتُ أصابُ بِ الجنونِ , و أنا أربِطُ كُلّ الأشياءِ بِ وجهك و أظنني سأفقدُ صوابي إن استسلمتُ إلى وفاءٍ لأصغرِ ذكرياتِكِ !
دخلتُ إلى مُحاضرةِ علم النفس , كانت المُعلّمة " نتاشا " ترتبُ أوراقَها لِـ تبدأ بِ إلقاء المُحاضرة , ألقي عليّها التحيّة : صباحُ الخير آنستي , فتبتسم و تردُ بِ هدوء : و صباحُكَ أجمل يا قصي .
كانت ملامحها الناعمة تنام بسكينة داخلَ قلبي , أظنُ أن احساسي نحوها بدأ يكبر منذُ رِحلتنا معاً إلى هولندا .
مضى عامٌ كامل , منذُ أن تلقيتُ خبرَ موتِكِ , كنتُ في كُل يوم أترقبُ صوتَكِ , و أترقبُ معهُ سعادتي المفقودة مع شفتيّكِ , و لولا نتاشا لما استطعتُ اقناعَ نفسي أنّكِ تنامينَ بِ سكينة في حُضنٍ أبيضَ و سريرٍ مِن نور , و أن طيفَ حُبي الغافي بجوارِكِ سيقيكِ الخوفَ و الوحدةَ و الشوقَ أيضاً .

( 25 مِن حُزيران 2008 )

كانَ سفري إلى هولندا لعنةَ عِشق جعلت الآنسة نتاشا تتورّط في دوامةِ الهوى , و تلكَ الدوامة تُصرُ على ظهوري بِصورةِ الرجل المناسبُ لِـ أحلامِها و طموحاتِها , إلى أن ألقت كامِلَ ثِقتها و حُبِها و وفائِها في صناديقِ روحي .
عندما طلبت مني مرافقتها في إجازةِ الربيعِ إلى مدينةٍ أخرى , ترددتُ في بادئ الأمر , ثُمَ قررتُ مرافقتها علّ سفري إلى هولندا سيخففُ عنّي هواجِسَ ندايّ و رجمَ رأسي بِ حجارةِ الشوقِ التي لا ترحم .
ما هيّ إلا بضع ساعات و قد وجدتُ نفسي في مدينةِ " كيوكينهوف" معَ نتاشا .. تلكَ المدينة التي تخبئ شوارِعِها و حدائِقها أكبرَ تجمع للجمال .. ما كنتُ أعلم هل تلكَ الأزهارُ ما جذبتني للمدينة , أم شوارِعها الأنيقة كـ ما لو أنّها صبيّة تتزيّن لِـ محبوبِها , تجبِرُ كُلّ المارينَ في شوارِعِها على التحديقِ بِ جمالِ صنعِها , أم أنّ وجود نتاشا كانَ يخففُ عنّي حُزني وقتها .. لا أدري , و لكنّي بِ حق منذُ إستنشاقي لِـ أوكسجين تلكَ المدينة , و أنا مطمئن .
نتاشا كانت تحمِلُ روحاً لا حدودَ لها , تتلوّنُ في كُلِ الأوقات و لكن عيناها تبقى على حالِها , غارِقة بِ السكونِ , صرامتها الشهيّة التي ترتديها أمام مدرجات الجامعة تنزعُ سريعاً عندَ خروجِها مِن بينِ تلكَ المقاعِدِ المنظمة !

( 29 مِن حُزيران 2008 )

إعترفت لي ذاتَ صباح , أنّ أجملَ خطواتِ حياتِها تلكَ التي خطتها معي في تلكَ المدينة , كانَ إعترافها كـ رِسالةِ حُب مختومة بِ ابتسامة و هيّ تداعبُ شفتيّها بِ أصابِعها , عندها ابتسمتُ لها و أنا أستحضِرُ في ذاكرتي توبيخها البارد في مدرجاتِ الجامعة , و أحاولُ تهذيبَ حديثي معها فدفؤها تلكَ اللحظة كان متناقضاً جداً عمّا عُرفَ عنها مِن برودةِ المشاعِرِ معَ طُلابِها .. و كان اختلافها في تناقضٍ مُلفت , يُغري اللهفةَ داخلي كـ رجلٍ في ضمِها إلى صدري ليسكت دفء نبضِها شيئاً مِن حُزني , و لكنّي اكتفيّتُ بِ شُكرها بِلطف على دعوتِها لي إلى تلكَ الأرض .
لا أنكرُ أنّ الوقت الذي قضيتُها معها كانَ عامِراً بِ الضحكاتِ و الطمأنينة , فوجودُ شخصٍ بِ جانبي , يشرقُ الفرحُ مِن وجههِ , كانَ يُغري لأتنازل عن جزءٍ من الحُزنِ الذي أحملهُ في وجهي .. أما حزنُ قلبي فكانَ يأكلني و لا يكتفي منّي !
كانت فرصه جميلة للتقرب من نتاشا و شكّلت تلكَ المدينة صداقة حميمة بيننا , لا تعني سعادتي معها أنّي قطفتُ الشمسَ و خبأتُها في صدري , فـ بردُ رحيلِ ندى جمّدَ كُلَ مشاعري ..
و لكنّ نتاشا مهدت وقتاً يسمحُ لي بِ ترتيبِ حُزني كُلّ ليلة , فوقَ مسامِعها و نظراتِها المسترخية و وجهِها الممتلئ بِ النعاس و صوتِها الذي كانَ يداري إحتياجي .

( الخامِس مِن أيلول 2009 )

الآنسة نتاشا , ألمانيّة الجنسيّة مِن أمٍ تركية و أب عربي , أخبرتني فيما بعد أنّها إنتقلت إلى برلين بعد زواجِ أمها من رجلٍ ألمانيّ عندما كانت هي في السادسة من عمرها و من يومها لم تسمعَ أيّ خبر عن والِدها ..
 لِصغرِ سنِها و جمالِها كانَ أكثر مرتادي مُحاضراتِها مِن الشباب .. و كانَ وجودها في الجامعة يثيرُ غيرةَ الفتياتِ الأصغر مِنها سِناً و الأقل مِنها جمالاً أيضاً .
كانت تلتفتُ إلى الشباب العرب أكثرَ مِن غيّرِهم , لِحرصِها على تعلّمِ الكثير عن عاداتِنا و تقاليدنا , و ربما لحنينِ عِرقها العربي في جوفِ قلبِها .
موضوع مُحاضرةِ اليوم عن السلام الداخلي , و قامت نتاشا بِـ طرحِ بعضِ الأسئلة على طُلابِها ,
.. قُصي ,
.. نعم
.. هل مازلتُ متورِطاً بِ ماضٍ يزعجك ؟
كانت ذكيّة جداً لِـ طرحٍ سؤالٍ كهذا و هي تعرِفُ مسبقاً أنّي سأنفي تلكَ التهمةَ عنّي , و لكنّها أرادت رؤيّةَ ارتباك نظراتي و ثقتي في الحديث , فهذهِ الصفحه أكثر ما يُثيرُ اعجابها بي , كما اعترفت لي مُسبقاً !
.. لا طبعاً , فـ ماضيّ أساسُ حاضري , و أنا روضتُ ماضيّ جيّداً كي لا يزعجني اليوم أبداً .
.. جواب ذكي . و هي تبتسم كما لو أنّها وجدت ضالتها في ملامح وجهي !
.. شُكراً .
لم أبادلها الابتسامة , خفتُ أن تُحسبَ اعجاباً أو حنيناً لِـ تبادلِ الحديثِ معها .. و أنا في الحقيقة كنتُ أودُ التخفيفَ مِن صوتِ الحُبِ المبعوثِ مِن تفاصيلِها إليّ .
بعد انتهاء دوامي تلقيتُ اتصالاً من نتاشا , تطلبُ مني مشاركتها وجبة العشاء .
.. قصي , ماذا لديكَ على العشاء اليوم ؟
.. و لمَ الإحراج ؟
تضحك ضِحكة خافته أسمعُ بقاياها عبرَ أسلاكِ الهاتف ,
.. اذاً كـ عادتكَ يا عازِب , تطرق رأسا بيضتين مع قليلٍ من الزيتِ و المِلح !
.. لا تنسي الفلفل .
.. اذاً ستقبلُ تناولَ العشاء في منزلي , صحيح ؟
.. فقط اذا قدمتي لي عرضاً مُغري !
.. فيليه سمك + جمبري مشوي + القليل من الأرز يا عربي !
.. في طريقي إليكِ .
تضحك و تُغلِقُ سماعةَ الهاتِفِ و ضحكتُها تترددُ في رأسي ..
أصبحتُ مِن بعدكِ يا ندى , أرى كُلّ النساءِ هُراء .. و كُلّ العلاقاتِ لها نهاية واحدة , و كانَ حبلُ الفراقِ يخنقني كُلّما تذكرتُ أنّي تورطتُ بِكِ و مازلتُ مريضاً أتوجعُ  كُلّما اقتربت يدي مِن قلبي ..
أتوجعُ على رحيلكِ , الذي لم أدون لهُ تاريخاً في رزنامتي , لم أمدَ له ذلك الطريقَ ليسلكه .. رحيلكِ الذي تمرّد على كُلِ أحلامي , و أخذكِ منّي , أخذكِ مِن أحلامي إلى أحلامِ غيري !
علاقتي بِ نتاشا كانت تضمنُ تواريخاً كثيرة , كنا نحرِصُ على تدوينها , لِـ نجدَ في عقارب تلك التواريخ متسعاً لنحتفلَ بِ انجازاتِنا الصغيرة , و الكبيرة !
كنتُ معجباً بِ فكرةِ تدوينِ كُلِ تلكَ التواريخِ في رزنامتي , لعلّ أعدادها المتزايدة تسقطُ تاريخَ غيابِكِ مِن عُمري !
فتحتُ دفترَ مُلاحظاتي ,
( الخامِس من أيلول 2009 , فيليه سمك + أرز , ربما هيّ أكبر نعمة حصلتُ عليها في يومي , و ربما هوّ الحدث الوحيد الذي يستحقُ أن يُذكرَ بعدَ 10 أعوام عندما أعودُ و أقلبُ في صفحاتِ هذا الدفترِ القديم . ) 

ارتديتُ ملابسي , حملتُ مظلتي خشيّةَ أن يباغتني المطر فيبعثرُ ترتيبي , خرجتُ إلى شوارِعِ برلين و قد توقف المطر حينها , شوارِعُ المدينةِ تتمددُ كـ صبيّةٍ تغتسلُ بِ أشعةِ الشمس , تُجففُ أماني المطر المتناثرة على أطرافِها , عبرتُ الشارِعَ سريعاً و توجهتُ لِـ بائِعِ الأزهار .
.. أهلاً سيدي كيفَ أخدمك ؟
.. أريدُ باقة وردٍ , متوسطة الحجم .
.. ما المناسبة ؟
.. عشاء .
.. هل تفضلها كاملة بِـ لونٍ واحد , ربما اللون الأحمر , أم تُريدُ مزجَ ألوانٍ أخرى ؟
كنتُ أحاولُ أن أعيدَ ذاكرتي قليلاً إلى هولندا , لأحاولَ تذكرَ اللونِ الذي شدها بِكاملِ حواسها , و لكن دونَ جدوى , حواسي كانت معطلة في تلكَ الأيام , كانَ خبرُ موتِ ندى يأكلُ قلبي , و يأكلُ حتى ذاكرتي و شعوري بما حولي . .
فكرتُ قليلاً , الأحمر رِسالةَ حُب , و أنا لا أعلم هل أنا متورطٌ بِ عشقِها أم أنّي متورطٌ بِوحدةٍ تجعلني أتوهم أنّي أحبها .
.. لا , ابتعد عن اللون الأحمر من فضلك , ربما الأبيض و القليل مِن الوردي سيفي بالغرض !
الأبيض كـ لونِ قلبها و الوردي كـ وجنتيّها .. ربما هذهِ أنسبُ طريقةٍ لأعبرَ لها عن اعجابي بكونها معي , ملاحظةُ تفاصيلها , كـ تسريحةِ شعرها , و أحمر شفاهها و لونُ ضحكتها و صوتُ فرحها و حُزنها .
.. حسناً , لكَ ذلك سيدي .
كانت الباقة ممتلئة بروحِ الوردي , و سِحر الأبيض , توجهتُ لِـ منزلِ نتاشا , طرقتُ الباب .. سمعتُ وقعَ أقدامٍ ثقيلة تقتربُ مِن الباب , فُتحَ الباب و كانَ يقفُ أمامي رجلٌ في الثلاثين مِن عُمره .
.. أظن بأني أخطأتُ العنوان سيدي , عذراً منك .
.. تمهل ! , أنت قصي ؟
.. نعم قصي !
.. أنا و نتاشا كنا في انتظارك , هي في غرفتها تبدل ملابسها , تفضل تفضل .
جاءت عيني على أزهارِ جوري برتقاليّة في وسطِ الطاوله , ثم نظرتُ للباقةِ التي بينَ يديّ , بدت أصغرَ حجماً , لاحظَ الرجل شرودَ ذهني , فباشرَ بِحديثٍ يزيحُ عني صمتي .
.. أزهار جميلة .
.. شُكراً لك .
.. لا أذكرُ أن نتاشا تحب اللون الوردي .
بدا واثقاً في حديثهِ عنها , و كأنهُ يبعثُ لي رسالة أنهُ يعرِفُ تفاصيلها أكثر مني , عاشرَ ما تُحبُ و ما تكره أكثرَ مني .
في هذهِ الأثناء دخلت نتاشا , كانت ترتدي فستان بِلونِ العُنب , و ترفعُ شعرها من الجانبين و تجعلهُ منسدلاً مِن الخلفِ يغطي تلكَ الشُرفة التي صنعها الفستانُ ليكشفَ لي عن شيءٍ مِن نعومةِ ظهرها .
.. يبدو أنكما تعرفتما .
و تمدُ يدها لِـ مُصافحتي ,
.. أهلاً قصي .
.. في الحقيقة لم أعرف قصي بِ اسمي , أنا جاك , سررتُ بِ لقائِك .
.. أهلاً جاك .. سررتُ بِ لقائِكَ أيضاً .
تأخذُ نتاشا الباقة مِن يدي , و تُلقي عليها نظرةً سريعة ,
.. أزهارٌ جميلة .
.. أخبرني جاك أنكِ لا تُحبين الأزهار الورديّة , لم أكن أعلم ذلك .
.. أخبرتُك بذلك عندما كنا في هولندا , " مُعاتبة بِ غنج " ..  لا تقلق , سأحبها لأنها منك .
و تبتسم و لا أعودُ أفهم بعدَ ابتسامتها تلك , أينَ موقعي في حياتِها .. هل أنا مجرد صديق و جاك هوّ حبيبها , أم أني مجردُ تلميذٍ مُفضل , لا أكثر .. أم أن ما ربطها بي عروبتي التي تجري في ملامحي , و لهفتها لِـ تعرفَ المزيد عن ذاك الشعبِ الذي نسبت إليّهِ قبلَ أن تأخذَ بِ ارادتها جنسيّةً أخرى تنفي كونها عربيّةَ الدمِ و القلبِ !
بدأنا بِ اعدادِ السفرةِ معاً , تلقى جاك اتصالاً , كانَ صوتهُ منخفضاً , و بدا مرتبكاً , قال يجبُ أن أغادر الآن , أعتذر منكِ نتاشا , أعتذر منك قصي , قبل خديّ نتاشا و صافحني , تناولَ معطفه و خرجَ مُسرعاً .
نظرتُ لنتاشا , ملامحها بدت عاديّة جداً , لا أراها غاضبة , بل هادئة كـ عادتها .
.. اذاً نحنُ وحدنا الآن .
.. نعم يبدو لي ذلك .
تضحكُ و تُكمل ,
.. هيّا , سيبردُ الطعام .
كنتُ صامِتاً , أحاولُ ازالةَ كُلِ الأسئِلة العالقة في رأسي عن جاك , و ما كنتُ أعلمُ سببَ تفكيري العميق بِها و بهِ , فما دخلي أنا ان كانت تُحبهُ أو كانت علاقتها بِهِ تتجاوزُ علاقتي بِها بِسنينَ طويلة ..
ولكن لماذا لم تُخبرني عنه ؟ لم تحدثني عنه ؟ و بدا و كأنهُ يعرفني جيّداً ! هيّ تحدثهُ عني اذاً ! تُخبرهُ بِكُلِ شيء , حتى لونها المُفضل , و ربما أخبرتهُ عن كل أشيائِها المُفضلّة و أنا معها منذُ عامٍ كامل , و لا أعرفُ عنّها سوى كونها معلمة علم النفسِ خاصتي و المرأة التي ساعدتني لأتجاوزَ شيئاً من ندى دونَ أن تعلم بِـ أنّها كانت تُساعدني .
قطع تفكيري صوتها ,
.. قصي ما بِكَ شاردُ الذهن ؟
.. جاك يبدو رجلاً طيباً .
ضحكت و أنا أجزمُ أن ضحكتها كانت بِسببِ سذاجتي .
.. نعم رجلٌ طيب , و زوجٌ طيبٌ أيضاً , يحبُ زوجتهُ جداً جداً , حتى أنه تبرعَ لها بِ كليتهِ و نقلَ إليّها شيئاً مِن دمهِ , يحبُ فكرةَ كونِ عضوٍ منهُ يعيشُ في أحشائِها , ربما لأن الله لم ينعم عليهِ بِ طفلٍ يحمِلُ رائِحتها .
.. أووه , مؤسفٌ جداً .
.. نعم , و لكنهُ مازالَ يحبها و يحبها أكثر كُلَ يوم .
.. لماذا لم تأتِ معه ؟
.. لأنها تزورُ والدتها المريضه في مدينةٍ أخرى .
.. ليعافيها الله .
.. أتركنا مِن جاك , أخبرني هل أعجبكَ الطعام ؟
.. شهيّ , شُكراً لأصابعكِ .
مدت يدها إليّ , و قالت , أشكرها بِ طريقةٍ ألطف , و هيّ تنظرُ إليّ نظرةً غريبة لم أعتدها من نتاشا ,
قبلتُ يدها , ففتحت لي كفّها و قبلتها , بدأت ملامحها تتبدّل , و بدأت تضعُ اصبعاً اصبع على شِفاهي لأقبله .
بدأتُ أشعرُ بِ نشوةٍ غريبة ,  و هي تُقدمُ لي أصابِعَ سُكرٍ تتفتحُ ورداً و عِطراً بِفعلِ قُبلاتي .. بعدَ أن أنتهت أصابعِها همست في اذني : لو أنني أملكُ أكثرَ مِن عشرة , لو أنني فقط أستطيع !
ثُمَ صمتت , و ابتسمت , و بدأت تتبعثرُ نظراتها عني ,
.. أتريدُ المزيدَ مِن العصير ؟
.. لا شُكراً لكِ .
.. ماذا تريدنا أن نفعل في سهرتنا هذهِ ؟ أتريدُ مشاهدةَ فيلمٍ ما ؟ أم تُريدنا أن نلعب ؟
.. نلعب ؟
تضحكُ بِ صوتٍ خجول ,
.. أحبُ لعبةَ الصراحة , و نحنُ اثنان لن نحتاجَ لِـ شيءٍ لنديرهُ بيننا , أنت تسأل و أنا أجاوب و من ثم تنعكس الأدوار ما رأيك ؟
.. أخافُ هذهِ اللعبة .
.. أرجوووك , سنستمتع و لكَ ما ترود بعدَ الانتهاءِ منها .
.. أيّ شيء أيّ شيء ؟
.. أيّ شيء , أيّ شيء .
لم أكن أعلم ماذا أريد , و ماذا سأطلب , و كيفَ سأهذبُ لساني أمامَ أنوثتها و أمامَ رقتها التي تذوقتها مِن أصابِعها , لا أعلمُ ماذا حل بي , و لكنّها كانت المرةُ الأولى التي أقبِلُ على تقبيلِ أصابِعِ أنثى و أتلذذُ في الغرقِ بنشوةِ عينيّها .
.. حسناً , اذا كانت هذهِ اللعبة ستجعلني أعرِفُ أيّ لونٍ مِن الأزهارِ تُفضلين .
.. اذاً اسأل أنت .
.. أيّ لونٍ من الأزهار تفضلين ؟ و ابتسم ابتسامة ساذجة , لا أعلم هل جُرحت رجولتي عندما أخبرني جاك أنها لا تُحبُ اللون الوردي ؟
.. اممم البرتقاليّ الصارخ , و الأحمر , لا تستغرب فأنا تستهويني الألوان الصارخة في الأزهار , أجدها رسالة و أرى أن الشوق و الحُب و اللهفة و الصداقة أيضاً مشاعر مُشتعله لن تفي الألوان الهادئة عن التعبير عنها .
أنظر للباقةِ البرتقاليّة ,
.. و هذهِ مِن جاك ؟
.. دوري الآن , لا تسأل في دوري .
.. تفضلي يا سيّدة . أقولها و ضحكتي تسبقني , وجدتُ سؤالي ساذجاً جداً , فمعالمُ الغيرةِ واضحةٌ في حديثي , كيفَ أغارُ عليّها و هيّ معلمتي ؟ كيفَ أغارُ و قد حرقت ندى قلبي ؟ كيفَ أشعرُ الآن أن جاك يحرقُ قلبي ؟ أيّ قلبٍ هذا الذي أحملُ نتاشا فيه !!
.. لماذا لم تعد تُحدثُ ياسر ؟
.. أسباب شخصيّة .
.. هذهِ لعبة الصراحة , يجب أن تُصارحني بِكل شيء .
.. حكاية طويلة .
يااه لقد وضعت المِلحَ على الجرح بِ سؤالها , أصبحتُ أتوجع و أمسكُ نفسي حتى لا أبكي أمامَها كـ طفلٍ صغير , فأنا لا أريدُ لمسةَ عطفٍ مِن أيّ كائنٍ كان .
.. أنا أسمعك , و الليل طويل و سهرتنا في بدايتها .
.. حسناً .. امممم هل تذكرين قبل عام عندما كنتُ أجهزُ أوراقي لِـ إكمالِ دراستي في الجامعة ؟
.. نعم نعم , عندما طلبت أن تعود لِـ وطنك , ثُمَ غيّرت رأيك بِسببِ موتِ حبيبتك .
صمتُ قليلاً , كنتُ أحاولُ أخذَ نفسٍ لا يفضحُ صوتَ حُطامِ قلبي ..
.. أعتذر عن تذكيركَ بِها , أكمل أرجوك .
.. لا تعتذري , أنا لم أنسى جرحها أنا فقط أتناسى لأظهرَ بِ صورةِ الرجلِ الذي لا تقدِرُ الأقدارُ على كسرِ رجولتهِ و كسرِ ظهرهِ بِ حُزنٍ لا يقوى على حمله !

( العاشِر مِن نيسان 2008 )

بعدَ أن تلقيتُ خبرَ موتِ ندى , حبيبتي السابقة , كنتُ متعباً جداً أحاولُ التعلّقَ بِ أيّ أملٍ كاذب يقودني إليّها , حتى أنني ظننتُ أنها كذبة نيسان , كذبة دمرتني و كنتُ أنتظِرُ ضِحكةَ رغد في آخرِ حديثِها إلى أنها لم تضحك !
عندما تأكدتُ أنّي أعيشُ وهمَ أنها كذبة في رأسي , حملتُ صدمتي في صدري و ذهبتُ إلى الحانةِ و شربتُ حتى بدأتُ لا أرى أمامي غيّر وجهها , لم يكن الشُربُ يخففُ عني , بل كان يزيدُ حالتي سوءاً , بدأتُ أصرخ و أحدثُ الفوضى , فقام صاحبُ الحانةِ بِ الإتصالِ بِ ياسر , كونهُ يعرفهُ مُسبقاً , أتى ياسر و حملني إلى بيتهِ بدأتُ أجهشُ في البكاءِ في بيتهِ كـ طفلٍ أضاعَ حنان أمه .

( الخامِس مِن أيلول , 2009 )

صمتُ قليلاً , لا أدري هل يجبُ أن أخبر نتاشا عن الحُزنِ العالق في ملامحي , هل يجبُ أن أفردَ أمامها بِضاعةَ روحي , فتتحسسني كُلّي , تتحسس مواجعي , أحزاني , نار قلبي , فتقدمَ لي نظرةَ أسفٍ و ربما بعض الكلماتِ تأخذني إلى صدرها ثُمَ تتركني غداً و تعيدُ إليّ بضاعةَ صدري لأنّها فقدت جودتها , ماعادت تصلحُ للحياةِ و للسعادة و لِـ وهبها شيئاً مِن الدفءِ و الطمأنينة .
.. أكمل قصي , أنا أسمعك .
أخذت يدي و وضعتها بين يديّها , نعومة كفيّها كانت تشعِرُني بِ بدايةِ رائحةِ الشفقة على حالي , و لكن رغبتي في أن أكمل كانت تزداد كُلّما حركت كفيّها على يدي , كانت أحزاني تشتهي لمسة حنونة كـ تلك التي قدمتها لي نتاشا .

( العاشِر مِن نيسان 2008 )

.. بكيتُ يومها كثيراً , و أظنُ أني لم أبكي في حياتي كـ تلكَ الليلة , و بدأتُ بِـ الإستفراغ , ثُم غفوت على الأريكة التي في منزله .

( الحادي عشر مِن نيسان 2008 , اليوم الذي تلى الكارثة )

كُلُ أحلامي تنقلبُ عكس ما أتمنى يا نتاشا , قلبي انتهكت معالمه , كُلُ نبضاتي المُتسارعة تُصابُ بِ صدمة .. استيقظتُ في اليوم التالي على صوتِ هاتف ياسر , ناديتُ ياسر ليجيب و لكنهُ كان يأخذُ حماماً دافئاً , ألقيتُ نظرة على هاتفه وجدته رقم مِن المملكة مِن الوطن , و رأيتُ أكثرَ مِن اتصال من ذات الرقم , و عندما دقَ هاتفهُ مرةً أخرى قررتُ أن أجيب لعله أحد من أهلهِ يريدُ أن يطمئنَ عليه .

( الخامِس مِن أيلول , 2009 )

صمتُ مُجدداً , بدأ صوتي يضيقُ و يدايّ ترتجفان .
.. قصي , هل أنت بخير ؟
.. أنتِ ملائكيّة يا نتاشا , أنتِ بيضاء جداً كـ تلكَ الأزهار .
تبتسمُ نتاشا
.. الارتباكُ واضحاً على أصابعك , على وجهك .
كانت ملامحها دافئة كـ نسمةِ صيف , لم يكن في ملامحي و لا في تصرفاتي دفئاً أدفعُ بهِ تلكَ التهمة التي وجهتها إلي .
.. أكمل أكمل مِن فضلك .
أمسكتُ بيديها بقوة , كنتُ أحاولُ أن أخبرها أن لا تتركني وحدي , فلا يوجد غيرها في هذا الكون يقدمُ لي دفئاً بلا مقابل .
.. حسناً سأكمل ,

( الحادي عشر من نيسان 2008 , يوم النكبةِ الأكبر )

 رفعتُ السماعة , و انتظرتُ ان أسمعَ صوتاً من الجهةِ المُقابلة و لكني لم أسمع شيئاً .
قلتُ : الو
فأجابني صوتُ فتاةٍ ظننتُ للوهلةِ الأولى أني أصبتُ بِ الجنون و أني بدأتُ أسمعُ صوتَ ندى في أصواتِ الناس .
.. الو ياسر , هل تسمعني ؟
صوتها , انها هيّ , انها ندى , لالا كيفَ يمكن أن تكونَ ندى , أنا مُصابٌ بوعكة , أنا مريض .. و بدأتُ أخرجُ عن عقلي , بدأتُ أتجردُ مِن ذوقي , رفعتُ صوتي و صرخت : ندى ؟ أنتِ ندى !! كيف كيف يمكن أن تكوني ندى ؟!
صمتت تلك الفتاة , ثم بدأت تبكي , و بدأت تردد اسمي و تعتذر , لا أدري هل هي تعتذرُ عن كونها مازالت على قيدِ الحياة , عن كذبةِ أختها , أم عن كونها تتصلُ على هاتفِ صديق عُمري , صديق روحي , صديقُ أسراري و صديقُ لحظاتي ياسر , أم عن كونها قتلتني ألف مرة بِخبرِ موتِها و قتلتني مليون مرّة بِصوتها المرتعش في أسلاكِ هذا الهاتف , يالعظمةِ جرحِكَ يا نيسان .
أذكرُ صوتها جيّداً , كانَ كـ صوت اهتزازِ جذوع الأشجارِ عندَ عبورِ العاصفةِ مِن خلالها , كان غصنها طري جداً , لم تتحمّل عاصفةَ غضبي و صُراخي , كانت تبكي و تعتذر بِ كلماتٍ قليلة أذكرها جيّداً : قصي أنت لا تفهم , قصي أنا آسفة , قصي اهدأ !
كانت تطلبُ مني أن أهدأ , و كفوف القدرِ تصفع وجهي , كم أنا أحمق , صديقي و حبيبتي ! حبيبتي و صديقي !

( الخامِس من أيلول 2009 )

نزلت دمعة من عيني و سقطت على يدِ نتاشا , مسحتها , و قالت اهدأ أنتَ معي الآن , هدئ مِن روعك , قلبكَ لا يستحقُ كُل هذا الألمِ صدقني .
كنتُ اعلم أنها ستتعاطفُ معَ حالتي , و كان تعاطفها يجعلني أزدادُ كُرهاً لنفسي و ضعفي و لياسر و للظروف و للقدر و لندى و لنيسان التعاسة !
و لكنّي كنتُ أحبُ رائِحةَ الطمأنينة المبعوثة من عطر حديثها , رائِحةَ الهدوء الساكنة لصوتها , أغمضتُ عينيّ قليلاً , تحسستُ صمتها في خيالي , تحسستُ مشاعرَ قلبها , و نبضها في رأسي .
إلى أن قطعَ صوتُها الرقيقُ خيالي ,  
.. هيّا دعني أريكَ شيئاً .
.. ماذا ؟
.. تعالَ معي .
كانت عيناها تمتلئان فرحاً , رأيتُ في عينيّها حشوداً مِن ضحكاتِ الأطفال , لأوّل مرّة أراها سعيدة هكذا , و كأنّها تُخفي في غرفتها عيداً حضرَ لِـ ابهاجي .
.. قصي أنظر عبر النافذة , ريثما أنتهي من اعداد المفاجأة .
كانت ستائر غرفتها مفتوحة , و كان النهرُ يُطِلُ مِن نافذتها .
.. منظر جميل .
.. نعم اشتريتُ هذا المنزل مِن أجل هذهِ النافذة , أتصدق !
.. أشعرُ أن البحر فقدَ لونه !
.. هذا بِفعلِ المارينَ بِهِ , سرقوا لونه , و تركوا فيهِ بقايا قصصهم !
.. و القصص بِلا لون ؟
.. هذهِ البقايا فقط , القصص الكاملة متشرّبة في ذاكرتهم !
.. أخبريني , كيفَ لا يخاف و هوّ يقفُ وحيداً , تعبرهُ الوجوه , كُلُ الوجوهِ , يدعونَ أنهم أوفياء .. يقضونَ حاجتهم إليّهِ و يرحلون , و هوّ لا يملكُ ملامحاً لِـ صديقٍ لا يخونه !
كان منظرُ البحرِ يغرقُ قلبي بِ الذكريات , كان وجهُ ياسر يتراءى أمامي , و صوتُ ندى , و حديثُ رغد أخت ندى , وجهُ جوليا الراحل , جوليا وحدها كانت صادقة , عاشت حياة غيّر سليمة و لكنّها حملت قلباً سليماً !
قاطع تفكيري صوتُ نتاشا ,
.. قصي , أغمض عينيّك و إلتفت إليّ .
فعلتُ ما طلبت مني , شعرتُ بِ دفئِها يقتربُ مني , إقتربت إلى أن إلتصقت بي ,
.. قصي لا تفتح عيناك .
كان صوتُها شهيّاً كـ لحظاتِ نضوجِ القمرِ في صدرِ الظلام !
 همست ,
.. ربما أستطيعُ إعادةَ شيءٍ مِن زرقةِ البحرِ إلى عينيّك .
.. أنتِ تُعيدينَ الروحَ إلى جوفي , فكيفَ بِلونٍ تاه عنّي ؟ نتاشا هل أفتح عيناي ؟
.. افتح , هيّا .
لم أصدق ما رأيت , كانت أشبهَ بِ دعوةٍ للفرح , هيّ تُحاولُ أن تصنع أيّ شيء لِـ أشعرَ أنّي لستُ غريباً معها , لأكسِر حاجِزَ كونِها معلمتي , و كوني مجرّد طالبٍ محظوظ بِ رفقتها .
كانَ الخِلخالُ يزيّنُ ساقيّها , كنتُ أراقبُ خطواتها , و قلبي يمشي خلفَ صوتِ خِلخالِها , بدأ صوتُ موسيقى شرقيّة يرتفعُ مِن المُسجل خاصتها , كانت تتمايلُ بِ حُريّة , بِ أناقة , كما لو أنّها إحدى الأوتارِ المتمرّدة , غصنَ زيتونٍ يداعِبُ النسماتِ .
كانت يداها ترتفعان قليلاً بِ حركاتٍ أنيقة , بطيئة , تتوقفُ حشودُ أنفاسي معها , ثُمَ يميلُ خصرُها و تميلُ معهُ نظراتي , كانت بارعة جداً جداً , تُحرّكُ خصرها بِ طريقةٍ مُغريّة , جسدها كـ كرمِ العُنبِ كُلُ ما فيهِ شهيّ , وجهها الجميل و شعرها المنسدل كـ الحرير على كتفيّها , كانت فاتنة , و كنتُ أنا أغرقُ واقِفاً في دهشتي !
كانت كُلُ عباراتي تخرجُ و تسقطُ و هي في طريقها إليّها , كانت كلماتي تحترِقُ بِفعلِ فتنتها , تموتُ تحتَ قدميّها , تنزلِقُ مِن خصلاتِها إلى أصابع قدميّها , و كانت نظراتُها تتوارى في صميمي , تقتحمُ أبواباً خفيّة في نفسي , كانت نظراتُها و حركةُ رموشِها تغزوانِ وحدتي , تنتشلانِ حُزني , أينَ حزني أخبريني أينَ حزني ؟ أينَ أجدهُ في زحمةِ هذهِ السمفونيّة الأنثويّة التي خلقتِها مِن أجلي !
.. ما رأيك ؟ تعلمتُ الرقص الشرقي مِن أجلك !
.. تسألينني عن رأيي ؟ اغسلي الفوضى التي أحدثتِها في رأسي أولاً !
.. هل أعجبك الرقص ؟
.. أنتِ عصفورة , تأخذينني في كُلِ لحظة إلى حياةٍ أخرى .
كانت كلماتي تضيعُ مني , و و تحشر في قلبي كُلُ مشاعري , لم أستطع أن أعبر عن دهشتي , كانت دهشتي تحاصِرُ وجهي , تمسكُ بِلساني , و يلعبُ الشيطانُ في رأسي , و لكنّي كنتُ أحاولُ أن أتوازنَ و أن أراقِبَ ملامحها و أتجاوزَ فيها حُسنها .
.. لا تتركيني أرجوكِ !
لا أدري كيفَ خرجت كل إنعفالاتي المكتومة داخلي في هذهِ الجملة ! و هل كان يجبُ أن أشعرَ نتاشا بِ ضعفي و خوفي ؟
.. سئمتُ تجاربي الفاشلة , سئمتُ كل اللذين يجسونني و يرحلون , سئمتُ الغربة التي أشعرُ بِها مع كُل من حولي , و سئمتُ شبحَ الوحدةِ الذي لا يغادرني يا نتاشا !
لا أريدكِ أن تقدمي لي قلبكِ غطاءاً و كلكِ وطناً و عِطركِ حِكاية و وجهكِ شمساً و حديثكِ سهراً و عيناكِ ملجأ , ثُمَ تتركينني في منفى و تشيدينَ كُلّ الأشياء التي تخصّكِ حتى لا أعاودَ الإقتراب منكِ ..!
أنا لا أريدُ أن أحيي ذكراكِ في قلبي و أنا أشربُ كؤوساً مِن عفنِ الحياةِ مُحاولاً أن أنساكِ !
أرجوكِ تخلي عني الآن إن كنتِ ستغادرينني كـ غيركِ , و لكن لا تمسكي بِ يدي و تجعلينني أعبرُ كُلَ الطريقِ معكِ مغمضَ العينين و عندَ آخِرِ الطريقِ تختفين لأفتحَ عينيّ على فاجعة , على أرضٍ غير صالحة للحياة !
.. قصي اهدأ أرجوك !
بدأ صوتي يرتفع , و بدأت الدموعُ تملأ وجهي فلا أكادُ أرى وجه نتاشا جيّداً !
دفنت وجهي في راحتي , أخذتُ شهيقاً إرتجفَ معهُ صوتي , تنفستُ رائحةَ الخوف المعجونة بِ جسدي , ماذا حدثَ لي , كيفَ أفقدُ كُلَ التوازن الذي أطعمتهُ لِـ نفسي كي أبقى الرجلَ الذي لا تؤثر بهِ أيّة علاقاتٍ عابرة , و لا حتى أيّة أقدار !
.. أنا أرجوكِ , أرجوكِ أرجوكِ , لا تجعليني وسيلة لتحسينِ سيرِ حياتكِ الرتيبة , ثُمَ تتخلصينَ مني عندَ عثوركِ على وسيلةٍ أكثرَ متعة !
.. قصي ألا تفهم ؟ أنا أحبك !
صمتت , و صمتُ , و بقيت نبضاتي تحدثُ ضجة في أركاني , شعرتُ أن الأرض تدورُ بي , جلستُ على حافةِ سريرها , كان سريرها يفوحُ دفئاً , مررتُ أصابعي على وجهي محاولاً ترتيبَ شيءٍ من ملامحي و مسحَ آثار تلكَ العاصفة التي مرّت بي .
أخرجت من دُرجِها دفتراً , و فتحت أوّل صفحةٍ فيهِ و كتبت شيئاً , مدت لي يدها ,
.. خذ هذا الدفتر , أحضرته من أجلك , كتبتُ لكَ في الصفحةِ الأولى , أريدكَ أن تملأ باقي صفحاتهِ كُلّما شعرتَ بِ أي احساسٍ يخصني .. أرجوك قصي , خذه مني .
.. حسناً , أشكركِ .
أغلقتُ الدفتر دون أن أقرأ ما دونت فيه , استأذنتها بِ الرحيل , و خرجتُ و أنا مازلتُ أشم رائِحةَ الخوفِ عالقة بِ أجزائي , كنتُ مؤمناً أن نتاشا أجمل مِن كُل توقعاتي , و لكنّي أخاف التورطَ فيها أكثر !
في طريقِ عودتي إلى المنزِلِ البارد , كنتُ أفكِرُ بِ حديثها , فتحتُ الدفتر لأجدَ كلماتها في أوّل صفحة :" الغُربة علمتنا أن لا ننتظرَ وجهاً راحل , و أن لا نتأملَ كثيراً في أحلامنا المسروقة , أن نرويَ نوراً بينَ أتربةِ الذاكرة , يجبُ أن نجتازَ وجوههم و ندخلَ منفضة في ذاكِرتنا تتوغلُ إلى أعماقِها فتخلصنا مِن كُلِ الأتربة الغير مرغوب فيها ثُمَ نُتْبِعُ تلكَ المنفضه دلواً مِن عِطر الحياة يغسلنا .. سأحاول أن أكون منفضةَ غبارك , و لكن عدني أن تجدَ عِطرَ حياتِكَ يا قصي . "
لماذا تبدو عاقلة جداً , حكيمة جداً , و طيبة جداً حتى في وقتِ ضعفها أمامي ؟ لماذا يا نتاشا تختارينَ دائماً أن تسلكي طريقَ العقلِ حتى في علاقاتِكِ غير المتزنة ! لا أدري هل أبدو لها لغزاً يجب أن تفكَ طلاسِمَ الحزن منه , أن تفتشَ في رأسهِ تنبشُ عن خيطِ حقيقة , تجذبها صعوبته , و ما إن تجد جواباً شافياً لكل تلكَ التفاصيل المخبأةِ فيهِ بِ عناية , يصغرُ اهتمامها بِهِ , و يصبِحُ سهلاً و سخيفاً و مملاً , فتتجاوزهُ سريعاً , و لا تأخذُ منه سوى خبرةً أكبر في حَلِ لغزٍ آخر قد يصادفها في طريقِ حياتِها .!
لماذا تُحاولُ أن تطمِسَ ذاكرتي , أن تصنعَ مني رجلاً بِلا ذاكِرة , أتريدُ صِناعةَ دمية ؟ دميّة لا تشكو حالَ الأمسِ و لا تحمِلُ في حديثها سوى الأمل و بضعُ كلماتٍ تُلقنني إياها بِ نفسِها !
كنتُ على فراشي أحاولُ استحضار النومِ , وصلتني منها رسالة ودودة على هاتفي النقال , كتبت فيها :" أخلد في فراشٍ دافئ بعدَ أن تُرسِلَ بِكُلِ أمانيكَ لِـ قلبي , أعدك ستنضجُ تلكَ الأماني سريعاً بِ فعل حرارةِ الحُبِ و لهيبِ الشوقِ يا قصي . "
متى تفهم تلكَ المرأة أن الحُب لا يطرحُ ثمارهُ سريعاً يحتاجُ لِمواسِمَ كثيرة , حتى ينضجَ على مهل , يحتاجُ لِـ أرضٍ صالحة لِـ إنباتِ لحظاتٍ جديدة , و يحتاجُ لِـ غرقٍ حتمي لِـ كافةٍ تفاصيلنا و أوقاتِنا و تفكيرنا و حتى احتياجاتنا !
كيفَ حكمت أن حُبها أزهرَ شمساً حارة و أنا مازلتُ عالِقاً في دوامةِ الوجع و البرد , لا يدَ تُهديني النسيان , و لا صدراً أبيعُ إليهِ دمع ذاكرتي ! أنا لا أريدُ امرأة عاقلة , أريدُ امرأة تفقدُ معي عقلها , فبعدها سأكونُ على يقين بأنها ستفقدُ معي قلبها و روحها و كُلها , و هكذا أتأكد أنها ستكونُ لي , حتى لو قررت أن تكونَ لغيري في لحظةٍ ما , ستعيدها كُل الأشياءِ التي تركتها معي , فما من امرأةٍ صالحة للحياةِ دونَ رجلٍ يحبها , و هيّ بِلا عقل و بلا قلب و بلا روح و بلا نفسها .
لا أدري لماذا كانت كلماتها اللطيفة و الممتلئة بِ مشاعِرِ العاشقين تُلبسني جموداً أكثر , ربما تخشبت مشاعري بعدَ أن غرسَ كُلُ من حولي سيوفهم في قلبي , ربما تحولتُ إلى دميّةٍ بِ حق , و لكن هذهِ الدميّة لا تكفُ عن عضِ شفاهِ الوجع و البكاء على ظِلالِ الماضي !
أرسلت لها : " أنا لا أستحضِرُ أمنياتي في غيرِ محرابِ صلاتي , تصبحين على خير ! "

( العاشِر مِن أيلول 2009 )

مرّت خمسةَ أيامٍ على آخرِ رِسالةٍ مِن نتاشا , أظنها غاضبة مني , و ربما قررت الإبتعادَ عنّي و تركي وحيداً دونَ صديق .
تعلمين احساس أن نتقاسم كل الأشياء التي نحب مع شخصٍ واحد , فيرحل و يأخذُ كُل ملامِحنا التي عشنا نربيها لتكبر فينا , يتركنا وحدنا , نهربُ من كل الأشياء التي تقاسمناها , و نظنُ أننا بِ تخلصنا منها سنتخلّصُ مِن وجعِ رحيلهِ !
هكذا أصبحتُ مِن بعدكِ يا ندى , أهربُ حتى مِن تناولِ فنجانِ قهوتي صباحاً كي لا تظهري لي في قاعِ الفنجانِ فتكسري وترَ يومي بِ إتقانٍ لا يصلُ إلى مستواه غيّركِ .
كانَ جرسُ البابِ يدق , توجهتُ إلى البابِ و أنا أجرُ أقدامي , فتحتُ الباب و اذا بها جارتي المُسنة تمدُ عقدةَ حاجبيها , و تمدُ بِ ورقةٍ مطويّة إليّ ,
.. صباحُ الخير .
.. قصي , أتت أنسة شابة و تركت لكَ هذه .
.. شُكراً لكِ سيدة ويلسون .
.. لا بأس , و لكن لا تعتد أن أكونَ ساعي بريد بينكَ و بينها .
أدارات وجهها و رحلت قبلَ أن أعتذر مِنها أو أرتِبَ حديثاً يليقُ بِ تجاعيدَ غطت عِظامها .
فتحتُ الورقة لأجد " قصي , مررتُ بِ جوارِ سكنك , خفتُ أن أوقظك , صباحُكَ سعادة .. سأغادِرُ المدينة لأغتسلَ في شوارِعَ مدينةٍ أخرى , أبحثُ عن وجوهٍ لا تعرفني و عن طُرقاتٍ يتيمة أهديها خطواتي , أراكَ على خير بعد أسبوع .. نتاشا "
لم تحرك كلماتها حنيني إليها , و لم أحملَ هم قضاءِ أسبوعٍ دونَها , فقط كانت تتردد جملتها " أبحث عن وجوهٍ لا تعرفني " في رأسي , فقد شعرتُ بِها تُريدُ مُصافحةَ وجوهٍ لا تسألها عن الحُزنِ النامي في عينيها , ربما عدم تأدبي في رسالتي الأخيرة كسرَ فيها كبرياءها .
أدرتُ شريطاً أحتفظُ بِهِ لِـ حليم ,
( حبيبها .. لستَ وحدكَ حبيبها !
حبيبها أنا قبلكَ .. وربما جئتُ بعدك !
و ربما كنتُ مثلكَ .. حبيبها ! )
و آه مِن بحةٍ سكنت عُمقي بِ فضلِ حليم , لماذا تُصرينَ على أخذِ كُلِ شيء لي يا ندى , كُل شيء , حتى صوتُ حليم أصبحَ كـ الغصّة في قلبي , فـ بحتهُ تحملُ وجهَ مساءاتٍ جمعتني بِكِ !
أخذتُ أقربَ وسادةٍ لي , وضعتها على وجهي , أغمضتُ عينيّ , و غفوت !

( الخامِس عشر من أيلول 2009 )

تلقيتُ باقة ورد برتقاليّة كبيرة , حملت بطاقة كتبَ عليها : " مرّت عشرة أيام على افشائي لكَ بِسرِ قلبي , عاقبتَ قلبي بِما يكفي , و أنا اليوم أمدُ لكَ يدَ صديقة , سأنتظركَ في المقهى المعتاد .. صباحكَ فاحشُ الجمال كـ لونٍ برتقالي غزا يومك . "
ارتديتُ ملابسي .. و توجهتُ إلى المقهى , كنتُ سعيداً بِ كونها أزاحت عن عاتقي قِصةَ حُبٍ ربما تبقى معلّقة في سمائي دونَ نضوجٍ كافي .
لمحتُ هيئةَ رجلٍ أعرفهُ , مِن ظهرهِ عرفتُ أنهُ ياسر , كان منشغلاً بِ مكالمة هاتفية , قررتُ أن أعبرَ مِن خلفهِ دونَ ان يلاحظني و إن لاحظَ وجودي لن أدعه يلاحظ أني رأيته ,
أسرعتُ خطواتي , و كانت ضيقتي تكبرُ في داخلي , يالـ اللعنة ! ها نحنُ يا ياسر نتقاسمُ ذاتَ الطريقِ دونَ أن تُصافِحكَ كفي , و دونَ أن أبتسمَ في وجهكَ و أخبركَ بِ صدقٍ أنتَ أخي الذي لم تلدهُ أمي , و أكادُ أشم رائِحةَ امي في ثيابِكَ مِن فرطِ حنيني إليها يا ياسر !! ها أنا أعبر و كل أمانيّ أن لا تلتفتَ إلى صوتِ حُطامٍ بِ فضلكَ أجرهُ داخلي .
كانَ صوتُ حديثهِ مرتفعاً بعضَ الشيء :
.. ندى , أخبرتكِ أنا هكذا و هذهِ طريقتي فلا تزعجيني بحركات الفتيات التي لا أتحملها !
.. ندى , إن كنتُ لا أعجبكِ عودي لمعشوقكِ السابق و أتركيني و شأني !!
.. ندى , لأخر مرة أقول أتركيني و شأني أنا لا أناسبُ أحلامكِ !!
ياه يا ندى .. ياه يا حبيبة سكنت عُمري , يا وجعي , يا وجعَ روحي , يا وجعَ قلبي !
ليتني هاتفهُ حتماً لكنتُ أكثرَ تهذيباً معكِ , لكنتُ نقلتُ إليكِ رغبتهُ بطريقةٍ لا تكسِرُ فيكِ أنوثتكِ , لا تزرعُ في قلبكِ سكيناً و ندماً و خاطِراً كـ بلورةٍ مكسورة !
ياه يا ياسر , أخذتها و كسرتني و ثم كسرتَ غصنَ قلبها ؟
ياه يا ياسر , ليتكَ قتلتني و لم تطعم ناري لتكبرَ في صدري !!
عبرتُ الشارِعَ و أنا أدوسُ على دمعة سقطت لتلعقَ وجهَ الشارِعِ .. و تزعزعَ تعاليمَ رجولتي .

" خذلتِني , و خذلتِ قلبك , و قتلتِ ظِلّي المُصاحِب لكِ , فلماذا لا تُغادرينني الآن ؟ "

.. بعدَ أن فُرِطت سِبحةُ الدهشةِ العظمى : 

( الثالث عشر من كانون الأوّل 2010 )

كنتُ أظنني قد تخلصتُ مِن كل الأشياء التي تخصُ ندى , غيرَ الوجعِ الذي لم أستطع دفنهُ في قلبي , و بعضَ الذكريات التي أصبحت كـ مشاةٍ تفتكُ الوجعَ , و لا ترحمُ أحياناً .
إلا أن نتاشا عثرت على دفترٍ كانَ ممتلئاً بِ حديثِ ندى و أمنياتِها و أحلامِنا معاً , و شيئاً مِن صورِها و بعضاً مِن شِعرها المفضل , و أغنياتها .
كانت تنظرُ إليّ بِ حيرة , و كانت عيناها كـ نجمتين تلمعان , أعلمُ جيّداً أن هذا البريق ليسَ كبريقِ الحُبِ أو الإعجابِ أو النجاة , هوّ نتاجُ الدمعِ الذي يأبى أن ينهمرَ على أرضِ صدري , يأبى أن ينكسِرَ أمامَ رجلٍ مازالَ يحمِلُ بينَ أشيائِهِ تذكرة عبور لِـ وجهِ محبوبةٍ قديمة ..
.. قصي , هل تحتاجه ؟
..
.. حسناً أظنّكَ نسيتَ أمره , سأتخلص منه .
.. أرجوكِ نتاشا , فيهِ أشياء تخصني !
.. مثل ماذا ؟
بدا الإرتباك واضِحاً على معالِمها , هيّ الغيرة تفجرُ براكينها في قلبِها الصغير , ليتني أستطيع أن أمنحها فرحاً يشبهُ ابتسامتها , ليتها تدرِك أن ندى غزتني و سلبت مني مملكتي , بصمت في صدري شعاراتِها , انتصاراتِها , و شيدت أسوارها , ثم غادرتني دونَ أن تترك وراءها هويّة أنتمي إليّها , غيرها !
أنا أحاول يا نتاشا , أنا أحاولُ أن أكونَ رجلاً يرضي وفائكِ , و لكني أفشل فـ بعمقِ الجرحِ أنا متأزِم , و واقِعٌ في مأزِقِ حُب لم أسلم منه بعد !
.. لا تهتمي سأتخلص منه أنا !
.. قصي أخبرني , أمازلت تفكر بِها ؟
.. لا !
.. لا تكذب !
.. أنا لا أكذب !
.. اذا دعني اتخلص منه بنفسي .
.. قلتُ لكِ سأتخلّص منه بعدَ أخذ حاجتي منه !
.. حاجتك ؟
.. أقصد , الأشياء التي تخصني !
.. بربكَ يا قصي , هل أخبروك أني طِفلة لم تبلغ الخامسة حتى !! أي حاجة تتحدث عنها أنت , أتريدُ ان تُشبِع حواسكَ بِ ذكراها ؟ أخبرني أتتمناها في أحلامك ؟ أتحلِمُ بِ أن تزرع ملامِحها في وجهي ؟ حتى تراها بي أيضاً ؟ أم أنك حقاً تراها في تصرفاتي ؟
.. اهدئي نتاشا , و أبعدي عنكِ كُل تلكَ الهواجس التي لا أساس لها .
.. لا تكذب مجدداً !
.. أخبرتكِ أني لا أكذب !
ارتفعَ صوتي قليلاً , صمتُ حتى أتمالكَ نفسي ثُمَ أكملت :
.. افهميني نتاشا , أنا استيقظت لأجدَ نفسي أتعايش معَ فِقدانِها , حكمت عليّ بِ الموت و أنا في نصفِ طريقي إليها , كنتُ أرددُ على مسامِعها كُلَ ليلة : " لن أخذِلكِ , لن أترككِ , لن أتخلى عنكِ , لن تُشاركك بي أخرى , لن أكمل حياتي مِن دونكِ " .. و أنا اليوم مرغم على تخطيها , و عبورِها و التخلي عن ذكرياتِها و تفاصيلها التي تشبعَ جسدي بِها , مرتبطٌ بِ وجهِ امرأةٍ غيرها , و تمضي أيامي و أكملُ حياتي مِن دونِها , كذبتُ عليها يا نتاشا , كنتُ أكذِبُ عليها حتى تغفو كُلَ مساء , و كنتُ أزرعُ ألغامَ كذبتي البيضاء في حقولِ شمسها , كنتُ أكذبُ على نفسي أيضاً , فأنا أيضاً تخيلتُ علاقتنا بِلا نهاية ,  .. طلبتُ مِنها ذاتَ ليلة أن تعطيني الدفتر الخاص بِ يومياتِها , و هو الذي بينَ يديّك , و وعدتها أن لا يُغادرني أبداً .. أرجوكِ تفهمي أنا مازِلتُ بِ حاجةٍ إليها!
.. قصي أرجوك لا تكمل !
.. نتاشا أنتِ امرأة رائِعة , و صديقة وفيّة , و لكني أخافُ أن أسلّمَ لكِ قلباً يحملُ ولاءً لِـ امرأةٍ أخرى .
.. و لكنها خائِنة ! طعنتك مع أقربِ أصدقائِك ! بربك كيفَ تُربِتُ على كتفِ ذكراكَ معها , تطمئِنُ أحلامكَ معها , توقِظُ أمنياتها في ليلك , و تعلقها على ستائِرِ همسك ! و هي تُضاجِعُ قلبَ رجلٍ غيرك .
.. أحببتها بِ براءتها , بِ أخطائِها , بِ تفاصيلٍ لن تستطيعَ امرأة أخرى أن تمنحني جزء منها , أعلمُ أن نهايتنا كانت فاجِعة , و أدركُ أن فاجِعتها كانت أعظم مِن كارِثة على قلبي , هشمتني و لكني مازِلتُ لا أقوى على العيشِ دونها , لا أقوى على تخيّلِ حياتي بعيداً عن عينيها , لهذا أنا أصونها في عينيّ .
..
.. أنا لستُ إلا وغد , ضعيفٌ أنا بعدَ أن أدركتُ الحرمانَ مِن بعدِها , ضعيفٌ جداً و أنا أدرِكُ الوفاءَ مِنكِ .
..
.. أخبريني , كيفَ ستتلوّنُ أرضكِ بلونِ وجهي , و أنا أحمِلُ ملامِحها في خلايا جسدي , لن أسامِحَ نفسي إن جعلتكِ تتورطينَ بِ رجلٍ يخفي غيركِ في أعماقِهِ , لن تكوني المرأة الأوفرَ حظاً و أنا أقدمُ لكِ حُباً بِ أعماق مهشمة , و بِ قلبٍ امتلأ و غصّ بِ غيركِ !
لا أريدُ جرحكِ , أنا أحتاجُ وجودكِ قُربي , فـ أنتِ الشيء الوحيد الحقيقي حولي , وحدكِ أستطيعُ لمسَ دفئِها و هي تُلقي عليّ تحيّة تخصني بِها , و وحدكِ فوقَ كُلِ البشر فلن يصلَ أيّ شخصٍ لِـ ملائِكيتكِ , أرجوكِ امنحيني وقتاً أطول في حضرةِ دفئِكِ , دونَ أن تُطالبيني بِ قِصةِ عِشقٍ لا أعلمُ هل سأكونُ صادِقاً فيها أم أني سأنغمسُ في أحداثِها لِـ مجرّد الخروج مِن واقعي المرتبط بِ ندى .
.. يكفي قصي , سأكونُ كما تريد , و الآن أستأذنك بِ الرحيل .
.. عديني أن لا تتركيني .
..
.. عديني !
.. حسناً , لن أتركك .
كنتُ أعلمُ أن نسيانَ ندى لن يكونَ سهلاً , و لكني لا أريدُ أن أدفعَ بقيّةَ حياتي ثمنَ التفريطِ فيها .. و سفري إلى ألمانيا عوضاً عن صناعةِ أمنياتٍ تحتضنُ كِلانا في فقاعة هوى كبيرة , لا نُغادِرها إلا لِـ فقاعةٍ أخرى !

( التاسع و العشرين مِن كانون الأول 2010 )

أفتحُ عينيّ على صوتِ الباب , أجرُ جسدي الذي أهلكتهُ معركة نومٍ على أريكةٍ لشخصين !
 أجدُ جسدَ نتاشا المشغول بِ عناية , متمدداً على فِراشي بِ طفولة ناضِجة .. كنتُ أعلمُ أني لن أجيدَ إخراجها مِن وحدتها العاطفية , و لكني كنتُ لا أتخاذلُ عن منحِها دفئاً مِن قطنِ لِباسِ سريري , كُلّما اشتدَ الحنينُ عليها , فـ شكت تمددَ الشتاءِ في فراشِها .
فتحت نِصفَ عين و نظرت إلي ,
.. قصي أسرع و أمسك بِ يدي !
أغمِزُ لها ممازِحاً :
.. سأغمرُ أصابِعكِ بِ مُصافحة مشبّعة بِ جمالِكِ , بعدَ أن أفتحَ الباب , قبلَ أن يفقِدَ الجرسُ حنجرته !
.. بسرعة قصي أشعر أني سأموت !
.. ما الخطب ؟
.. هل سأموتُ قريباً ؟
.. هل أزعجتكِ الكوابيسُ المترامية على أطرافِ سريري ؟
.. أنا أموتُ , أنا أموتُ بِ دفءِ هذا الفراش يا قصي , أموت بِ رائِحتكَ المختزنة بينَ طيّاتِهِ !
أضحكُ بِ خجل , مجنونه هيّ عندما تختارُ بِدءَ يومِنا بِ حديثٍ طاغي الأنوثة , قد يكونُ طُعماً لِـ أقعَ في شرِ ابتسامتِها التي تستيقِظُ بِ مكر على شِفاهِها الورديّة .
أسرعتُ لِـ الباب .. فتحته بسرعة , قبلَ أن ينفذ صبرُ الطارِق ,
كنتُ أشمُ رائِحةً ألِفها قلبي طويلاً و مازالَ يتوجعُ على احتضانِها في داخِلهِ ..
نظرتُ متعجباً ,
كان الوجعُ اكبر مِن أن يتحمّلهُ قلبي , بدأتُ أشعرُ أن نبضاتِهِ تتسابق لِـ حملهِ و إخراجهِ من صدري , قبلَ أن تقتلَ هذهِ الفاجِعة ما تبقى مِنه ,
نظرتُ إلى ندى و هي تقفُ بِ جوارِ ياسِر ,
لم أستطِع أن أتفوهَ بِ كلمة , كُلُ مسرحياتِ الحديثِ التي كنتُ أعدها في خيالي لِـ لقاءٍ قد يجمعني بِهما , فرّت مِني , كنتُ أحمِلُ دهشتي و ضعفي و انكساري بينَ يديّ , إلى أن تسربت الدهشة مِن كفيّ إلى وجهِها ,
قالَ ياسِر بِ صوتٍ ضعيف , ما كنتُ سألاحِظهُ مِن فرطِ الصدمةِ التي أصمت كُلَ حواسي :
.. أتسمحُ لنا بِ بعضِ وقتِكَ يا قصي ؟
لِـ أجيبَ بِ فوضى بعثرت اجاباتي كُلّها , موجهاً حديثي لِـ ندى :
.. لماذا اختاركِ القلب لتكوني الحبيبة ؟ لماذا أتيتِ فاتِنة و شوهتِ أيامي , و أنتِ تدركينَ أن مفاتيحَ الحياةِ خاصتي كلها ملككِ ؟ كيفَ تشوشينَ اتزانَ رجلٍ , يصعبُ عليهِ أن يرى حياتهُ في غيرِ قلبكِ ؟
بِ ارتباكَ قالَ ياسِر و هوّ يمسِكُ بِ كتفي , فرعشاتُ أصابِعي و فوضويّة حواسي كانا يعلنانِ انهيارَ جسدي و اتلاف ما تبقى مِن أعصابي :
.. قصي , دعنا نتحدث في الداخِل !
ابتعدتُ عن طريقِ خطواتِهم , مشطَ عِطرُها أرضيّةَ مسكني , كانت عيناها متعلقتان بِ نتاشا المتمددة كـ جورية على رصيفِ حُلمِ فِراشي , كانت تشعُ ضوءاً و حولها طيورُ فرحٍ مِن السهلِ ملاحظتها في ابتسامتِها التي كانت تحتضنُ كل أجزاءِ الغرفة !
جلسا على الأريكةِ التي كنتُ أخوضُ معها حرباً قبلَ قليل ,
ياسِر : قصي خُيّلَ إليّكَ أشياء لا وجود لها , كنا نحاول ُ الإتصال بِك و لكنك لم تجب , أتينا مِراراً إلى هنا و لكن المكان كان أشبهُبِ كهفِ أشباح , لا يطأ أرضيتهُ دفء بشر !
رفعتُ رأسي متثاِقلاً , أثقلُ الهمُ كُلَ أطرافي , كنتُ أشعرُ بِ خدرٍ في أصابِعي , و وخزٍ يدقُ جدرانَ قلبي , فـ لتذهبوا للجحيم كُل ما كانَ يصرخُ في صدري , و صمتي كانَ لا يُحرّضُ شِفاهي أن تتحرّك في حديثٍ معَ صديقي الذي سرقَ قلبَ حبيبتي , و الآن يعيدها إليّ بعدَ أن تذوّقَ حلوى قلبِها و أشبعت حواسُها رغباتِه و أنانيته !
أخذت ندى حبلَ الحديثِ و أكملت : قصي ليسَ بيني و بينَ ياسِر أيّ شيء , كنتُ أحاولُ أن أسرِقَ أخبارك مِن خلالِهِ , لأني عجزتُ عن الوصولِ إليك , و كانَ صدكَ الدائِم يؤذي غروري بِك , كنتُ أظنكَ تخلصتَ مِن قِصتِنا عندَ أبوابِ برلين , عندما بدأت أشعرُ بِ اختلافِ ملامِحكَ عليّ , عندما فقدتُ بحّةَ صوتِكَ في ليلي , عندما تخلى عني خيالك و تركني أجوبُ شوارِعَ " جدة " دونَ أن أجدَ في آخرِ كل طريق جسدكَ المتمدد على غيمةِ حُلم , و وردة تحيكها بِ عناية مِن أمنياتِنا , و صندوق نخبئ فيهِ أحلامنا حتى لا تهرب منا !
هربت أحلامي مِن بعدك يا قصي , هربت خلفكَ , و أنتَ لم تلتفت إليّها , عادت منكسِرة , حزينة , عادت بِلا قلب يضخُ فيها روحاً جديدة , بِلا روح تُسابِقُ الغيمَ لِـ تصِلَ إلى كفيّكَ و تختبئ في وطنٍ تخلقهُ انت في راحتيّك !
.. ندى لا تتحدثي عن أحلامِنا معاً , بعدَ أن رميتِ نفسكِ على صدرِ رجلٍ آخر , حتماً أنستكِ خطواتُ نبضهِ كُل الأشياءِ التي تخصني , كنتُ أبالِغُ في رسمِكِ بِ وجهِ ملاكٍ يطوفُ في دمي , كنتُ أظنكِ بِ نورِ جسدكِ ستحافظينَ عليّ مِن عتمةِ حياتي , ستحافظينَ على روحي كل حياتي .. ثم ستحافظينَ عليها مرة أخرى في جنّة تجمعني بِ حسنكِ في آخرتي !
أكنتِ تنتظرينَ مني أن أضع القمر في كفيّكِ , حتى لا تلتفتي لغيري ؟
غدرتِ بي .. غدرتِ بي .. لماذا غدرتي بي ؟
يقاطِعُ وجعي ياسر : قصي أخبرتك أن لا علاقة تربطني بِها , هيّ كـ أختي و أنتَ أكثر من أخ و صديقُ روح يا قصي !
ندى بعد أن ظهرت في عينيها دمعة : قصي فقط أردتُ أن أعتذر عن كوني ذِكرى سيئة في حياتِك .. أعذرني حتى لو دارت الأمور بِ عكسِ إرادتي , جئتُ إلى برلين لِـ تصحيحِ خطأ لم أرتكبه , لأن قلبكَ و حياتك و مشاعرك و روحك يهمونني كما أنك تهمني أكثرَ من كل حياتي .
.. و رغد ؟ تآمرتي معها لأخرجَ من حياتكِ , حتى تستطيعي أن تكوني مع رجلٍ آخر دونَ أن يغرِقكِ ذنبُ بقائِكِ في عينيّ و تعليقُ أمنياتي بِ ثوبِ ليلِكِ ؟
.. رغبة رغد بِ أن أتخلصَ مِن قلقي حيالَ غيابِكَ , جعلتها تتصرف هكذا , ظناً منها أنها بِ تصرفها ستقطعُ امتدادَ رائِحتكَ في صفحاتِ عُمري !
.. بربكِ أيُ عاقِلٍ سيصدقُ كل هذا !
.. قصي أرجوك ! , أنظر إليّ أنظر إلى عينيّ , ستجدُ الصواب و كُلُ الحقيقة المزروعة في قلبي , لك .. و لا يُشارِكُكَ أحدٌ في أرضِ قلبي .. صدقني !
..
مرّ صمتٌ طويل , أعرضتُ عن النظرِ إليها , كانت نظراتي معلّقة على أرجلِ السرير خاصتي , كنتُ أحاولُ أن أهربَ مِن سِحرِ عينيّها , كنتُ أحاولُ أن أتشبثَ بأيّ شيء , حتى لو خشبة تطفو بي إلى حقيقة لا تحملُ ذاكِرة معبأة بِ تفاصيلَ تحرِقُني .. ببطء !
بعدَ طولِ صمت , قال ندى بِ صوتِ الخيبة :
.. حسناً , اعتني بِ نفسكَ يا قصي , هيّا بِنا ياسِر , يجبُ أن ألحقَ موعدَ طائِرتي .
غادرا و أنا صامِت , و غادرت معهم شهقة صعدت إلى سقفِ الغرفة و ارتدت كـ صاعِقة على قلبي , نظرتُ إلى نتاشا , كانت تجلسُ على حافةِ السرير , تنظرُ إليّ بِ حُزن و قلق , كانَت ملامِحها تحرضني لـ كي أتركني بينَ كفيّها لـ تلملمَ بعثرتي !
توجهتُ إليها وضعتُ رأسي الغارِق بِ الخيبة في حضنها , أمسكتُ يدها , و بِ همسةٍ يملأها أطيافُ وجعٍ لا يُغادِرُني :
.. متعبٌ أنا , ضعي يدكِ على قلبي , تحسسي وجعي و انتشليني مِن أوهامي , مِن حياتي , عجلي بِ شفائي قبلَ أن أفقدَ أخرَ نفسٍ لي !
أريدُ ان أموتُ هُنا , لا تتركيني لا أريدُ أن أموتَ وحيداً !
أغمضتُ عينيّ , و ما عدتُ أشعرُ بِ شيء !

( العاشِر من كانون الثاني 2008 ) 

فتحتُ عينيّ لأجدَ نفسي في غُرفة بيضاء , كانت ممرضة جميلة تتأكدُ مِن سلامة عبور المحلولِ المعلّقِ فوقي إلى وريدي ,
التفتت عينيّ إلى بطاقة معلقة بِ عناية على صدرِها , كتبَ عليها : نتاشا أوركيد .
.. أينَ أنا ؟
.. الحمد لله على سلامتك يا قصي . " بِ ابتسامة مُشرقة "
.. أينَ أنا , و منذ متى أنا هنا ؟
.. أنتَ في المشفى بعد أن تعرضتَ لِـ حادِث , منذ أسبوع و أنتَ غائِب عن الوعي .
.. نظرتُ حولي , فلم أجد سوى معطف مُلقى على الأريكة .
.. من كان هنا ؟
.. إنهُ الدكتور مصطفى , دكتور التاريخ في جامعتك , تناوبَ هوّ و شاب قالَ أنهُ ولد عمك يدعى ياسر, على المكوثِ عندك كُلَ يوم .
.. فيهِ الخير هذا الكريم , و أينَ ياسر ؟
.. أخبرني أنهُ سيأتي لزيارتك بعدَ ظهيرةِ اليوم , و لكني سأهاتفهُ الآن لأخبرهُ أنكَ أفقت بِ سلامة .
.. أريدُ استخدامَ الهاتف أرجوكِ .
.. ليسَ الآن , الحديثُ لا يناسبك , سأنادي الطبيب ليطمئنا على حالِكَ الآن .
.. أريدُ ان أهاتِفَ ندى , اشتقتُ إليها .. لابدَ و أنها قلقة عليّ الآن !
.. سأهاتِفُها أنا , فهي تطمئنُ عليكَ كُلَ يوم مِن خلالِ مهاتفتي , سأطمئنها , و بعدَ أن يراكَ الطبيب سأسمحُ لكَ بِ السفرِ في صوتِها .
التفتت إلى الباب و أنا أرى خيوطَ الشمسِ تُغازِلُ ساقيها , و خِصلات شعرها , و ابتسامتها ممتدة إلى سابِعِ سماء .


قصي : انتقلَ لتوهِ إلى برلين , بعدَ أن قُبِلَ في احدى جامِعاتِها .. تعرضَ لِـ حادث مروري بعدَ أن كانَ يُهاتف ندى التي أخبرتهُ في مكالمتها تلك أن رغد صديقةُ عُمرِها ستنتقلُ إلى برلين للإلتحاقِ بِ إحدى الجامعاتِ أيضاً .
ندى : تربطها علاقة بِ قصي منذُ خمسةِ أعوام .. تحبهُ و لا ترى غيره , يخططانِ لِـ الإرتباطَ بعدَ ان ينهي قصي دراستهُ , و لِـ الإنتقالِ إلى برلين التي شبَ هواها في نفسِها .. كُلّما وصفَ لها قصي جمالَ تِلكَ المدينة .
ياسر : ابن عم قصي , و صديقُ طفولتهِ , و أخوهُ بعدَ أن جمع بينهما صدرٌ واحد , و ارتويا مِن ذاتِ الحليب , يقاسِمه أسرارهُ , و مسكنهُ , و حتى مقاعد الدراسة ذاتِها .
العم مصطفى : دكتور عربي ذو أصل تركي , هوّ دكتور التاريخ في جامعة قصي , يحب قصي جداً , و قصي يرى في وجههِ صورةَ والدهِ .. و القدوة و رمز الحِكمة .
جوليا : صديقة ياسر , غيرت ديانتها مِن المسيحية إلى الإسلام بِ فضلهِ , و هي مدينه لهُ بِ عمقِ العقيدة التي زرعها فيها , تحبُ القراءة , و يصادفُها كل من يريدها في مكتبةِ الجامعة .
نتاشا : الممرضة التي كانت تعتني بِ قصي كُل فترة غيابهِ عن الوعي , و هي آخر اسم وقعَ عليهِ نظره , و آخرُ وجهٍ أيضاً .
رغد : صديقة ندى المقربة , و ستنتقلُ قريباً إلى برلين لِـ إكمالِ دراستها .

كانت التواريخ تتوالى في رأسِ قصي و رزنامة رأسهِ تستحضِرُ تواريخاً مدوّنه في دفترِ مواعيدهِ و لكن بِ أحداثٍ أخرى غير التي دوّنت مِن أجلهِ , و كانَ القدر يسخرُ منهُ في حُلمهِ , أصبحَ يربِطُ الوجهَ بِ قِصة يبتسمُ لها جرحُ قلبهِ , أصبحَ يحفرُ جرحهُ في حُلمٍ مِن جهنّم , تُلقي تفاصيلُهُ في نارِها .. حيكت كُلُ الوجوهِ على حقائِقَ مختلفة خارجة عن الحقيقة , لملمَ أحداثاً لم تكن و كانَ المضمون حنيناً و ألماً و بحثاً عن مخرج مِن منفى أحيطَ بِ روحهِ , و عاش تِلكَ الأحداث و هوّ يبحثُ عن طريقِ النجاة , عن يدٍ تمتدُ إليّهِ فـ تشرقُ حياتهُ مِن جديد ..
كانت حقيقتهُ خلفَ جفنين مغمضين , كانت حقيقتهُ غائِبة عن الوعي , و كان يُحاول .. يُحاولُ فقط ..!

أشرقت عيناهُ ، و تمت


و كانت البداية ( هنا ) 

هناك 11 تعليقًا:

  1. بدأت أقرؤها من ثاني جزء !!
    لم أستطع التوقف عن القراءة، فأسلوبك في حبكها لا يقاوم !
    أجهشت بالبكاء في بعض المواضع، تألمت مع قصي كثيراً،
    لوهلة ظننتها حقيقة، وآمل أنها كذلك - باستثناء الآلام التي استوطنت فيها -
    وفقك الله .

    ردحذف
  2. قصي يبكي قلبي و عمق الحبكة مؤلم و يجعلني اقف بدهشة لتلك السيدة التي تسكنك

    آمال واسعة لنحظى ب قصي آخر في قصص آخرى لك

    مبدعة بحفظ المولى

    ردحذف
  3. مؤلمة
    انا اقرأ هنا و احببت ان القي عليكِ التحية لأنني أحب كلامك كثيراً ،

    ابتسام

    ردحذف
  4. كنت احاول ان افتش في قلب قصي عن ضالتي و لم افشل في هذا

    قصي يتحدث بلساني و لسان غيري
    فكم انتي موهوبه .

    ردحذف
  5. لا أدري الى أي مدى إمتد نور الحرف فيني ، أو لأي مدى لامستني تفاصيل الحكاية ..

    بل ربما طافت دهشتي بين ثنايا الفكرة ، فزدانت فتنة و ألقاً ..

    يا صديقة ،
    كل شيء نسج هنا كان محط فرح و تعب
    صدقيني لا أحد مثلكِ قادر على مزج تلك الأحاسيس سوياً بهذا الجمال ..

    أحببت الحكاية جداً
    هي من القلائل اللاتي أعود إليهن كلما مسني الحنين لأشياء كثيرة ..

    أرتجي المزيد من إنسكاب الحرف ، في تفاصيل قصة جديدة

    كوني بخير دوماً

    ردحذف
  6. أيقولون ان حرفكِ مبدع ؟؟؟
    مبدع قليلة بحقك
    مبدع قليلة بحقه
    تجاوزتي الابداع
    وصلتي الى أكبر من ابداع
    خلقتي معجزة
    خلقتي صوتا للملائكة
    و قلما من نور
    و اشرقتي
    وحدكِ اشرقتي
    و حجبتي بضوئكِ الشمس و توابعها
    انتِ الحياة

    وفقكِ الله مدى .



    ريما

    ردحذف
  7. هنيئاً لنا بك وبقلمك
    ما اجملك وما اعذبك

    ردحذف
  8. قرأت الدنيا بين حرفكِ
    و الصمت في حرم الجمال ... جمال



    عمر

    ردحذف
  9. يَ نَقيْه

    سَلِمَ إحْسَآس هوَ .. أنتِ

    //
    لآ مَزيدْ
    فَ حرْفُكِ يُغْني

    لِـ روحك ريحآنه

    ردحذف
  10. اعجوبه يً انتي
    أطلتٌ الوقوف بين جنبآت احرفكٍ دومآ وكنتٌ اترقب كل همس يجنيه خيآلك ويحكيه همسك ويتقنه ابدآعكْ
    ومع هذا لم اكتفي به ..
    اتلقى في احيآن كثيره صوتً صمتي امآم جنةُ احرفك وأبتسم في احيآن كثيره فكثيرةٌ هي التي كآنها القت على تفآصيلي وكتبت عني .. صدقآ احرفكٍ أدمنتها لحد الجنون..

    تحيتي يً نقيه
    صاحبة البوح.. غآمضه لحد الجنون

    ردحذف
  11. رائعة انتي ..
    روعتك افقدتني القدرة على التعبير ..
    تنحني الحروف احتراما لدقة تصويرك وتعبيرك ..
    وطرت بِنَا في سماء الكلمة نعيش أحداثها وتفاصيلها


    ابدعتي .. تحيتي لك

    ردحذف

تحتَ بابي , قلبٌ غافي , فرفقاً بِ خلوتهِ .